"كلوديا جونز": الراديكالية السوداء المدفونة بجانب "ماركس"

 





كريبسو ديالو 

  


اليوم يمر علينا ذكري وفاة "كلوديا جونز"، الشيوعية الثورية السوداء التي أمضت حياتها بلا كلل ضد التميز العنصري والطبقي والنوعي في الولايات المتحدة وبريطانيا، أفنت حياتها من أجل تحرير الشعوب الكاريبية والأفريقية من الاستعمار، والحث علي إنهاء أتون الحروب وبث روح السلام في جميع أنحاء العالم.


ولدت كلوديا فيرا كومبرباتش في 21 فبراير 1915 في مدينة بلمونت ، بترينيداد وتوباغو ، البلد التي خرج منها العديد من المناضلين السود المخضرمين مثال C.L.R.  جيمس وإريك ويليامز وجورج بادمور وكوامي توري (سابقًا ستوكلي كارمايكل). في سن مبكر أُجبرت هي وعائلتها على الهجرة إلى مدينة نيويورك عام 1922 نتيجة الصعوبات الاقتصادية في ترينيداد.


عندما كانت كلوديا في الصف الاعدادي نمت لديها موهبة البحث عن المعرفة والنهم الثقافي، فكانت تدخر جزء من مصروفها المدرسي من أجل شراء الكتب والجرائد، في هذه الفترة كان لها الحظ أن تقابل العديد من الأسماء السوداء البارزة في حركة نهضة هارلم، وقرأت للعديد من المفكرين والفلاسفة ،الساسة والمؤرخين والأدباء، لكن انجذبت أكثر لكتابات ماركس وإنجلز وأحداث الثورة الفرنسية، البلشفية و سير ذاتية لشخوص نسائية ثورية امثال روزا لوكسمبورغ وألكسندرا كولونتاي، كل هذه القراءات كانت سببا محوريا في أن تجعلها تفكر بأن اذا كان السود يكافحون بسبب عدم المساواة العرقية التي تعتبر القاعدة في الولايات المتحدة، فإن جذور هذا التفاوت تكمن في التقسيم الطبقي للمجتمع، فإذا كان انتمائهم إلى أقلية عرقية مضطهدة يفسر مكوثهم في الأحياء الفقيرة ومعانتهم من الاستغلال المفرط في أسوء الوظائف وكون أغلبيتهم عاطلين عن العمل، إلا أن تقسيم المجتمع إلى طبقات هو ما وراء وجود الأجور الضئيلة والبطالة والمساكن الفقيرة. إن كل هذا لم يخترع خصيصا من أجل اهانة السود، بل إنه نتاج المجتمع الرأسمالي الصناعي. والتمييز العنصري لم يحضر سوى ليلون بالأسود طبقات البروليتاريا المستغلة بإفراط،ففي مجتمع قائم على استغلال الإنسان للإنسان، ومهما كانت درجة قساوة الاستغلال، فمن غير المستحسن التميز بخصوصية ما كالعرق أو الدين أو العرف. فالطبقة الحاكمة سوف تجد سريعا مبررا بيولوجيا أو دينيا أو قانونيا للوضع الذي تفرضه على الطبقات الأخرى.


مع الوقت اكتسبت كلوديا وعي نقدي وظهر لديها انحيازات طبقية وتطور معرفي بهويتها الافريقية، جعلها عندما كانت طالبة في الصف الثانوي تنظم تظاهرة كبري للتنديد بالغزو الإيطالي لإثيوبيا، وتشارك في حملة جماهيرية لإنقاذ حياة شباب سكوتسبورو (Scottsboro) وهم تسع شباب من السود كانوا ملاحقين في ولاية آلاباما بتهمة اغتصاب شابتين من البيض في حين أنهم كانوا ابرياء من ذلك. وكان قد حكم عليهم بالإعدام بعد محاكمة دامت يوما واحدا، وكانت الجمعية الوطنية لترقية الملونين NAACP تتردد للدفاع عنهم فقام الحزب الشيوعي بحملة أممية واسعة وتمكن من تبرئتهم، الامر الذي اكسبه ثقلا لدى جماهير السود التي كان من ضمنهم كلوديا.


على الرغم من أن كلوديا كانت طالبة متفوقة، إلا أن فرص التعليم الجامعي كانت محدودة للغاية خلال الثلاثينيات للنساء المهاجرات الأفريقيات من منطقة الكاريبي في الولايات المتحدة. وبدلاً من الالتحاق بالكلية أو الجامعة، عملت كلوديا في المغاسل والمصانع ومنافذ البيع بالتجزئة في نيويورك.


 بعد مشاركتها في قضية سكوتسبورو ناين ، انخرطت بعمق في العمل السياسي وانضمت إلى رابطة الشباب الشيوعي في عام 1936، اعتمدت لقب "جونز" كإجراء وقائي في عملها التنظيمي مع الحزب الشيوعي  (CPUSA).  لم يكن الإجراء السابق غير عادي نظرًا للهستيريا المعادية للشيوعية واضطهاد الشيوعيين في الولايات المتحدة.  


ثم عملت صحفية في Daily Worker ، جريدة الحزب الشيوعي خلال هذه الفترة. ذاع سيط كلوديا في هارلم حيث شاركت في العديد من الحملات والفعاليات الجماهيرية، أدت موهبتها وتفانيها إلى صعودها السريع داخل صفوف الحزب.  بحلول أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، أصبحت منظمًا العديد من التنظيمات والحركات الشبابية والحقوق المدنية والدينية وكذلك لجان حقوق المهاجرين. وفي عام 1945 ، أسست لجنة السود بداخل الحزب.


قبل اختراع مفهوم "التقاطعية" بأربعين عام، أنتجت كلوديا نظرية Triple oppression. التي كانت قائمة علي ان الاضطهاد للنساء السوداوات قائم على أساس العرق، الطبقة الاجتماعية، والجندر قد فاق جميع أشكال الاضطهاد الآخرى. علاوة على ذلك، وضعت نظرية مفادها؛ أن تحرير النساء السوداوات، وهن الأكثر تعرضًا للاضطهاد بين جميع الناس، من شأنه أن يحقق الحرية لكل هؤلاء الذين يعانون من الاضطهاد على أساس العرق والطبقة الاجتماعية والجندر. في  مؤتمر للحزب الشيوعي انتقدت كلوديا تركيز أدبيات الحزب النسوية على اضطهاد نساء الطبقة العاملة البيض فقط، وعدم تسليط الضوء علي الاضطهاد الذي تتعرض له النساء السوداوات قد ذكرت كلوديا ذلك بشكل جلي في مقالها

 «An end to the neglect of the problems of the Negro woman!» (1949).


في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، بدأت الحكومة الأمريكية حملة مكثفة ضد اليسار ، وغالبًا ما يشار إليها باسم المكارثية ، بسبب جلسات الاستماع الشائنة التي أجراها السناتور الجمهوري عن ولاية ويسكونسن "جوزيف مكارثي".  بسببها تعرض الآلاف للمضايقة والتشهير والاعتقال ، مما أجبر الكثيرين على العزلة والنفي والترحيل.


جلب نشاطها التنظيمي انتباه مكتب التحقيقات الفيدرالي إليها. في 1950، اعتقلت لإلقائها كلمة بمناسبة يوم المرأة العالمي أعلنت فيها تأييدها بقوة للنضال من أجل السلام وضد العدوان الامبريالي علي شعوب العالم الثالث. وحكمت بالسجن مرات عدة. واُصيبت بأول نوبة قلبية في السجن في 1951 وعمرها لم يكن يتجاوز 36 عاماً.


أثناء البحث ومراقبة كلوديا، اكتشف المكتب الفيدرالي بأنها تقدمت بطلب للحصول على الإقامة الدائمة. لهذا انتهز الفرصة لإلقاء القبض عليها بتهمة الهجرة غير الشرعية. اعتقلت في مرفق احتجاز جزيرة إليس سيئ السمعة،  تم تأسيس حملة جماهيرية أوقفت ترحيلها لبعض الوقت. تم تمثيلها من قبل جورج كروكيت جونيور ، وهو محام أمريكي من أصل أفريقي من ديترويت.

 

 ظلت كلوديا لبعض الوقت طليقًة أثناء نظر القضية قيد الاستئناف. ومع ذلك، رفضت المحكمة العليا الأمريكية استئنافها ، وتم إرسال كلوديا إلى السجن الفيدرالي للنساء في فيرجينيا حيث تعرضت لأزمة قلبية. بعد حملة شعبية واسعة ، أطلق سراحها، ثم جاءت ردة الفعل المكارثية ضد اليسار ، والتي أثرت بشكل خاص على الاشتراكيين السود، حيث قامت بترحيلها هي و وليام دو بويز، والنقابي فرديناند سميث ، والمفكر الثوري سي. جيمس، إلى بريطانيا عام 1955 ،ثم انضمت إلى الحزب الشيوعي البريطاني ، الذي ظلت عضوًا فيه حتى وفاتها المبكرة في عام 1964.


 في بريطانيا استغلت عقود خبرتها في الصحافة التي جمعت بين السود ونضالات الطبقة العاملة ، أطلقت أول جريدتان عن السود  West Indian Gazette و Afro-Asian-Caribbean News قامت هذه الصحف ببناء تضامنها مع النضالات المناهضة للاستعمار في الخارج وحاربت العنصرية ضد المهاجرين والسود في الداخل، ورصد الصعوبات والانتهاكات التي يواجهها الكاريبي وغيرهم من الأفرو آسيويين في حياتهم اليومية.


تعتبر كلوديا هي صاحبة فكرة مهرجان نوتينغ هيل السنوي الشهير في لندن، الذي كان يشارك فيه كل عام أكثر من الآلاف من الأشخاص المنحدرين من أصول أفريقية، كانت تنظم مسيرات ضد التميز العنصري موازية للتي تحدث في واشنطن في لندن، أيضا نظمت العديد من حملات لمقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وحملات تضامنية مع حركات التحرر الوطني بافريقيا. 


بعد حياة قصيرة العمر، طويلة الكفاح والنضال توفيت كلوديا جونز في عام 1964 بعد إصابتها بنوبة قلبية. ودفنت بجوار نصب كارل ماركس في مقبرة هايغيت بشمال لندن، نُقشت هذه الكلمات علي مقبرتها: "مناضلة شجاعة ضد العنصرية والإمبريالية كرست حياتها لتقدم الاشتراكية وتحرر السود".


اعترف كبار الشيوعيون المخضرمون امثال بيلي ستراشان وتريفور كارتر وكليستون تايلور بأن كلوديا تتمتع بفهم ورؤية واسعة لمسألة العرق والطبقة والنوع أكثر منهم.


قد صرح  توني جيلبرت، الذي عمل معها لسنوات: "لم تكن هناك شخصية سوداء أخرى في الولايات المتحدة وامريكا في ذلك الوقت بشجاعة وتفاني كلوديا بخصوص قضاياة الأقليات والطبقة السوداء"


 إنه لظلم كبير للتاريخ أن ارث كلوديا جونز الثوري غير معروف بين السود الراديكاليين الذين قد يستخلصون دروسًا من نهجها المتكامل للقضاء على العنصرية والرأسمالية والنظام الأبوي والإمبريالية.  في هذه الفترة من سياسات الهوية المبتذلة ، لابد أن نسلط الضوء على مساهمة تاريخ كلوديا الثوري الذي استرشد نشاطه بتوجه سياسي مناهض للرأسمالية ومناهض للقمع ومناهض للإمبريالية.


 انا كنت قرأت من فترة كتاب المفكرة كارول بويس ديفيز ، في كتابها "Left of Karl Marx: The Political Life of Black Communist Claudia Jones" ، سببًا لتهميش سيرة كلوديا:


 "تظل سير المرأة الشيوعية السوداء واحدة من أكثر الدراسات التي تم إهمالها من بين الفحوصات المعاصرة للنساء السود لسبب واحد وهو أن السرد التاريخي للنسوية (السوداء). محتكر من قبل معظم الأكاديميات النسويات الليبراليات. معظم هؤلاء الباحثين لديهم امتيازات تجعلهم  لا ينجذبون إلى إرث كلوديا الثوري المرتبط بالشيوعية'


 بصفتها امرأة أفريقية من الطبقة العاملة ، زودتها تجربتها الحية بفهم واسع للنظام الأبوي الذكوري. أوضح مثال على فهمها وتحليلها لاضطهاد المرأة الأفريقية موجود في مقالها "نهاية لإهمال مشاكل المرأة السوداء!" الذي  تم نشره في عام 1949. عبرت كلوديا فيه على يقينها من صياغة حركة نسوية اشتراكية لا تأخذ في الاعتبار فقط قضايا العرق، بل وأيضًا الصراعات المختلفة لجميع النساء العاملات. لانها شعرت بأن  النساء السود قد عانين شكلًا فريدًا من الاضطهاد لم تدركه الحركة النسوية. وزعمت أيضا بأنه مع تحرير النساء السوداوات فإن حلم البان افريكانزيم يكون أكثر قابلية للتحقيق. وعلى حد تعبيرها:«بمجرد أن تباشر النساء السود العمل، يتعزز إلى حد كبير نضال الشعب الاسود بأكمله، ويتعزز بالتالي التحالف المناهض للإمبريالية في القارة والدياسبورا».


لهذا ربطت كلوديا مناهضة الإمبريالية بالنضالات المحلية للسود والنساء ضد العنصرية والقمع الجنسي، ركزت اهتمامها بتحرير المرأة على تغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية غير المتكافئة وليس الهوس الثقافي الموجود في دوائر سياسة الهوية المبتذلة الحالية.


قد أثّرت آراء كلوديا في نساء شيوعيات وناشطات سوداوات آخريات، مثل أنجيلا ديفيس، واودري لورد، المجموعة النسوية "نهر كومباهي". كتبت ديفيس عن ال Triple oppression في كتابها «المرأة، والعرق، والطبقة الاجتماعية» (1981).


 

هذا مقتطف من اخر مقال نشرته قبل موتها 👇🏿

 

 "الفقر، العنصرية، الأبوية، دفعاني للانضمام إلى رابطة الشباب الشيوعي واختيار الفلسفة الماركسية كمنهج لحياتي  - تلك الفلسفة التي لا ترفض الأفكار العنصرية فحسب، بل تعتبر نقيضها، تم ترحيلي من الولايات المتحدة لأنني بصفتي امرأة شيوعية من أصل أفريقي ، كنت شوكة في حلقهم بسبب معارضتي غير المتهاونة لقوانين جيم كرو العنصرية ضد 16 مليون أمريكي أسود في الولايات المتحدة ،  تم ترحيلي ورفضت فرصة لإكمال جنسيتي الأمريكية لأنني ناضلت من أجل السلام ، ضد ميزانية الأسلحة الضخمة التي يجب أن توجه الأموال لتحسين الاحتياجات الاجتماعية للشعب. لقد تم ترحيلي لأنني حثت على مقاضاة المجرمين بدلاً من محاكمة الشيوعيين وغيرهم من الأمريكيين الديمقراطيين الذين يعارضون المجرمين وكبار الممولين ودعاة الحرب ، وهم المدافعون الحقيقيون عن امبريالية وعنف الولايات المتحدة، تم ترحيلي لاني احلم بعالم خالي من الاستغلال والفقر والعنصرية والحروب، سوف تناضل من أجل هذا الحلم الي أن يتحول واقع حتي لو دفعت حياتي ثمن ذلك ".


مصادر وكتب ومراجع حول "كلوديا جونز" 


"Left of Karl Marx: The Political Life of Black Communist Claudia Jones" by Carole Boyce Davies


https://www.pdfdrive.com/download.pdf?id=158154312&h=1a5d77629230ae2f1a905b38c5905479&u=cache&ext=pdf


"Claudia Jones & The Black Marxist Feminist Tradition"


https://digitalrepository.trincoll.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1627&context=theses


"Sojourning for Freedom: Black Women, American Communism, and the Making of Black Left Feminism" by Erik S. McDuffie.


https://www.pdfdrive.com/download.pdf?id=175266113&h=1f1d363756346bb80cf1032ea6013832&u=cache&ext=pdf


https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=https://www.marxists.org/history/erol/uk.secondwave/jones.pdf&ved=2ahUKEwjUh4fu7-btAhX2ZxUIHR9ECcEQFjALegQIChAB&usg=AOvVaw2-mxPXjqiq8BRJ-WXxdGHM


https://morningstaronline.co.uk/article/f/political-life-and-times-claudia-jones


https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=https://m.soundcloud.com/user-208734627/claudia-jones-black-feminist-fighter-for-socialism&ved=2ahUKEwjNk4er8ObtAhXhQhUIHZaWAxgQFjAFegQIBBAB&usg=AOvVaw36lFWSO7koJupmHt1zDo37


https://www.counterfire.org/articles/history/21717-claudia-jones-communism-and-the-notting-hill-carnival

تعليقات