عن ضرورة المعجزة / يوسف شوقي

 


  

"عندما تستحكم القبضة، ولا يوجد منفذ واحد للأمل؛ تؤمن القلوب القانطة بالمعجزة"
نجيب محفوظ.. رواية "الحرافيش"



بعد هزيمة 1967، وقبل البدء في حرب الاستنزاف، عاش المصريون أياماً طويلة من الإحباط صاحبَتها مراجعة نفسية للشعارات والأهداف والرؤى، التي وضعتها صوب أعينهم السلطة الناصرية، حتى تلك الأخيرة قامت بنفس المراجعة.

في تلك الفترة العصيبة، وتحديداً فى 2 ابريل 1968، في منطقة الزيتون، شاهد عمال نقل - كما تقول الرواية - سيدة على قبة الكنيسة، وظنوا أنها تحاول الانتحار، فصاحوا "حاسبي يا ست" واتضح فيما بعد أن السيدة كانت العذراء مريم تتجلى فوق كنيسة الزيتون كما تدعي الرواية، ويجب التأكيد أن ذلك الحادث من أهم الأحداث وأكثرها استحواذاً على التصديق من عموم الاقباط، لأنه الحدث الأول من نوعه في مصر بالإضافة إلى استمراره لعدة ايام، وتصديق السلطة السياسية عليه، بل والدعاية له. ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة الأدلة المؤيدة و المعارضة؛ فبغض النظر عن التحليل الواقعي، الذى يكشف لنا أن الصور التي تظهر فيها السيدة العذراء بشكل واضح قد تم تعديلها بعد الحدث بسنين، وأن الذى ظهر كان مجرد ضوء غير واضح الملامح؛ فإن ما يهمنا هو الدلالة السياسية والاجتماعية للحدث.
لم تكن الهزيمة هزيمة نظام؛ بل هزيمة شعب، ومشروع آمن به الشعب؛ فكانت العواقب النفسية على الجميع.
ولأن النظام الناصري لم يحقق التحرر والتحديث الكامل للمجتمع المصري، ووقف في منتصف طريق تحديث البنية الاقتصادية، ولم يشرك الجماهير بشكل ديموقراطي في المعارك السياسية والعسكرية التي خاضها النظام، والأهم أنه أعاد إنتاج البنية الإيديولوجية الدينية، بل وعمل على تقويتها في كثير من الاحيان. أدى كل ذلك إلى استمرار طُرق التفكير الشعبي/ الديني، والرؤية الدينية/ التواكلية للعالم التي ترى أن التغيير حتما سيأتي من فوق، وليس على الجماهير إلا انتظار المعجزة، مما مهد للوعى الجمعي المصري اعتبار الضوء فوق كنيسة الزيتون تجلياً للسيدة العذراء، ولم يقتصر الأمر على المسيحيين، بل امتد إلى الجماهير المُسلِمة أيضاً، ولا يرجع ذلك فقط إلى مكانة العذراء في الدين الإسلامي؛ بل مكانتها في الوجدان الديني للشعب المصري عموماً.
بالنسبة للنظام السياسي فقد احتاج تأييداً سماوياً، وقد جندت الدولة أجهزتها لنشر الواقعة بشكل عالمي، وتنظيم مشاهدة النور، ونشر الخبر والصور في الصحف كلها.
وكانت هذه هي بداية الجنوح الديني/ السياسي لدى المصريين أو إدخال الدين في السياسة، فها هي كلمات الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة:
" إن تلك الزيارة المباركة دعوة لأبناء مصر للتمسك بإيمانهم وعقيدتهم فى هذا الوقت بالذات الذى تنتشر فيه دعوات الإلحاد، وأصوات الكفر، وصرخات الابتعاد عن الله. ونحن لا ننسى حتى الآن ذلك الإنسان الذى أُرسِلَ إلى الفضاء وعاد ليقول إنه بحث عن الله ولم يجده"

نلاحظ في هذا الحديث أنه غير موجه للمسيحيين حصراً، لكنه موجه لعموم الشعب المصري؛ مسلمين ومسيحيين، في مواجهة الالحاد الذي جسدته المنجزات العلمية السوفييتية. 

تلك كانت أوائل الإرهاصات الدينية التي أرجعت سبب الهزيمة إلى التحالف مع الاتحاد السوفيتي الملحد أو قبول مساعدات منه، أو اتباع نهجه الاشتراكي، وأن الحل هو الرجوع إلى أحضان الدين مرة أخرى، وبهذا لم يختلف كلام الأنبا صموئيل في مضمونه السياسي عن مختلف التفسيرات الدينية للهزيمة التي أتت بعد ذلك.
الغريب في الأمر انه بعد أربع سنوات من تلك الواقعة الدالة على التلاحم الوطني بين عنصري الأمة، حدثت أول فتنة طائفية في الخانكة ومن بعدها توالت أحداث الفتنة، ومهدت أجهزة الدولة السابقة لتلك الحوادث من خلال السماح للجماعات الاسلامية بممارسة العنف الديني في سبيل محاربة الناصريين واليسار وإخضاع الكنيسة لسلطة الدولة.
ولكن ذلك التحول لا يدل على التناقض بقدر دلالته على النتائج المترتبة على استخدام الدين كأداة للاستقطاب الشعبي، فكما يقول غالى شكري في كتابه "التراث والثورة":

" إن الرؤية الدينية قد توحد بين المسيحي والمسلم في مواجهة ما يسمي بالإلحاد، ولكن ما تلبث في استقامتها المنطقية أن تفرق بينهما، بل بين أبناء الدين الواحد، وربما بين أبناء المذهب الواحد، ذلك أن الرؤية الدينية لا تقدم حلولاً، ومن اي نوع، لمشكلات للوطن والمواطن الحقيقية"

تمر السنون، وتحدث تجليات للعذراء، ومعجزات شفاء في مختلف أرجاء الوطن. لم تختلف بِنية تلك الاحداث عن بنية قصة ظهور العذراء في الزيتون، فكلها أتت مواكبة لأحداث أو ظروف صعبة بالنسبة للأقباط، وكلها كان لها وظيفة ودور في مواجهة الاقباط لتلك الظروف وخصوصاً أثناء أحداث الاضطهاد والعنف والتمييز الديني، وكانت لها النتيجة نفسها، المتمثلة في التمسك بالتفسير الكنسي للأحداث وربطها بالمعجزة أو الواقعة. والملاحَظ هنا أن درجة التصديق تقل مع التقدم في الزمن، ويرجع ذلك الي تقدم النظرة العقلانية للدين (حتى لو بشكل تدريجي) التي تركز على الجوانب الروحية أو النفسية في الدين وتبتعد نسبياً عن الجوانب الخرافية/ الإعجازية، وتقدم تلك النظرة كان نتيجة مجموعة من العوامل اهمها تقدم قدرة العلم علي تفسير مختلف الظواهر تفسيرا موضوعيا، والتأثر بالتوجهات الليبرالية اللاهوتية الغربية واخيرا الظروف الاجتماعية التي اعدت المسرح ليتثني للمجتمع المصري التأثر بتلك العوامل. 

وتوجد توجهات فى الكنيسة الأرثوذكسية نحو تلك النظرة العقلانية ولكن بشكل متحفظ أو متردد.

ويأتي دور أحدث واقعة؛ وهى الادعاء بشفاء العذراء لعادل فايز الذي من المفترض أنه عانى الشلل الرباعي لمدة سبعة أعوام، ثم رأى نوراً خافتاً وهو جالس على كرسيه المتحرك في كنيسة البابا كيرلس بعزبة النخل؛ فصرخ قائلاً "العدرا أهيه"، ووقف ثم جرى تجاه النور.
بعد ذلك مباشرةً نشأ التراشق التقليدي بين مؤيدي حدوث المعجزة، الذين جمعوا الأدلة، التي تؤكد معاناة عادل من الشلل الرباعي وضمور المخ، وبين غير المصدقين بحدوث المعجزات عموماً والمتدينين العقلانيين الذين يرفضون المعجزات كدليل على صحة الدين.
ولكن شيء ما حدث حَوَّل مسار الواقعة عن المسار التقليدي وهو نشر أشعة عادل فايز والتي تثبت أنه لم يكن مصاباً بالشلل الرباعي ولا ضمور الدماغ، وأن كل ما هنالك هو ضغط على الحبل الشوكي، ومن المعروف أن تلك الحالة تسوء فى بعض الأحيان ثم تتحسن تلقائياً؛ فيستطيع المريض الحركة بشكل طبيعي.

والمثير فى الأمر أن من صدَّقوا المعجزة ما زالوا يصدقون، بل وزاد دفاعهم استماتة!، وبشكل منطقي؛ لكي تحدث معجزة الشفاء من الشلل يجب أن يكون هناك شلل من الاساس!. ولكن على الرغم من عدم منطقية الدفاع فإنه قد أحدَث شرخاً إيديولوجياً في "خطاب المعجزات" لا ليكشف عن عدم حدوثها فقط؛ ولكن عن الأسباب الاجتماعية للاعتقاد في حدوثها أيضاً.

بعد وقوع "المعجزة"؛ كتب الكثير من الكهنة على صفحاتهم على الفيسبوك أن تلك المعجزة هى الرد الأمثل على المشككين فى الكنيسة في الآونة الاخيرة من أصحاب التوجهات العقلانية. نلاحظ هنا تشابه خطابهم مع خطاب الأنبا صموئيل المذكور أعلاه. كما أشار البعض إلى ارتباط المعجزة بتغيير بعض القبطيات لدينهن، وخروجهن إلى الإعلام، ونفيهن لادعاءات خطفهن، ففي العهود السابقة (أيام مبارك) عندما عانى المسيحيون التمييز الديني؛ كانت تلك الأحداث تزيد من تماسك رواية الكنيسة وتفسيرها للظروف الصعبة التي تحيط بالأقباط، وبالطبع التأكيد على حدوث المعجزات حينذاك، ولكن ينتفى هذا العامل الآن بعد الاستقرار النسبي لوضع المسيحيين في مصر. وأخيراً كان للظروف الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة دوراً في حرث تربة الوعى القبطي لاستقبال حدوث المعجزة، أو بمعنى أدق أنتجت تلك الظروف الاعتقاد في صحة "المعجزات".

لو كانت المعجزة دليلاً على إعجاز القوى العليا التي تقوم بها؛ فهي، على الجانب الآخر، دليل على عجز الانسان عن فهم واقعه فهماً موضوعياً، ومن ثم محاولة تغييره بناء على هذا الفهم. إن الاعتقاد في المعجزات يظهر حينما يعيش الانسان ظروفاً غير إنسانية؛ فيلجأ لحلول فوق انسانية كاستجابة مشوهة إلى تلك الظروف.

تعليقات