في الفكر السياسي للمناضل جوزيف اوكيل قرنق / بقلم اديسون جوزيف قرنق



جوزيف اوكيل قرنق مناضل وسياسي ماركسي الفكر والمنهج، ظهر في حلبة العمل السياسي من بداية الخمسينات في السودان حتى اغتياله في يوليو 1971، لم ينصفه التاريخ وأنصفته مبادئ وأفكار عاشت، وسيظل تيار الفكري التقدمي الذي أرسى جوزيف اعمدته الاساسية قائما.حملت افكارة امال المنتجين من العمال في مصانع، وسائل  النقل ,ومزراعين في الحقول ,والعاملين بالمؤسسات الخدمة المدنية ، والرعاة والصيادين جنوا من ثمار مجهوداتك...افكاره شملت طموح الطلاب من اجل تعليم جيد يجعلهم يساهمون في تنمية مجتمعاتهم، افكارة كانت نورا لحاملي الثقافات المختلفة التي تعاني من روح التعالي القومي واحلامهم الاعتراف بثقافاتهم.أفكاره وخطه التقدمي الذي سلكه، جعل الرجعيين في الشمال والجنوب على السواء لديهم نظرة سالبة تجاهه فقد (ناصبه العداء رجال الكنيسة فى بحر الغزال، وعملوا ما وسعتهم الحيلة لعزله واتهامه بنقل "جرثومة" الماركسية الى الجنوب الذي كان مرتع لهم لعقود عديدة. ولم يكن السياسيون الجنوبيون أكثر ترفقا به؛ واتهموه بالعمالة للشمال تارة، وبالتخطيط لتحويل الجنوب الى منطقة نفوذ للحزب الشيوعى دون مراعاة لظروفه تارة أخرى. بينما انهمكت أجهزة المخابرات فى الشمال تحصي خطواته باعتباره مصدر خطر مزدوج (شيوعى وجنوبى ))..
فهو ينتمي للتيار المقاوم لهيمنة حكومات الشمال علي الجنوب وداعي للحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للجنوبيين، في نفس الوقت شيوعي امتلك أدوات تحليل لفهم الطبيعة الاصلية للصراع والمصالح المتخفية خلف روح التعالي القومي.. تنظيميا كان جزء من الحركة التقدمية في السودان التي تسعى للتغيير وضد طبيعة الانظمة الرجعية وسياستها المعادية للشعب بالتحديد فيما يختص بالجنوب.
وفقا للمؤرخ" جون قاي" فإن جوزيف قرنق ينتمي إلى اتجاه فكري يؤمن بأن مشكلة جنوب السودان نزاع سياسي يعود جذوره الي الاختلافات الاجتماعية والسياسية بين الجنوب والشمال، وبأنها يجب أن تحل في ظل وحدة السودان، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تغيير نهج العلاقات السياسية والاجتماعية بين الطرفين لتتناسب مع مستوى التغييرات التي حدثت في البلاد منذ الاستقلال ، تلك التغييرات تشمل، وفقا لجون، الهوية السياسية ونظام الحكم ويؤمن هذا التيار الفكري بضرورة التحالف السياسي مع أجسام من مناطق السودان الأخرى.. ويذكر جون قوي ضمن رواد هذا التيار وليم دينق نيال، فرانسيس مادينيق دينق، جون قرنق دي مابيور، ابيل الير واخرون. وقد يكون تصنيف جون قاي صحيح لكن جوزيف قرنق كان أكثر راديكالية من الاخرين، بالتحديد من ناحية الاقتصادية وتناول هذا البعد، كأحد أسباب الاختلاف البنيوي بين الشمال والجنوب، بطرح برنامج تنموي للواقع جنوب السودان يعمل خلال بنية الهيمنة ويحدث تغيير في علاقات القوة والسيطرة بين الطرفين.. قد يكون جون قرنق أقرب من الآخرين لفكر جوزيف، بالتحديد حول التغيير الجذري لطبيعة الدولة السودانية.
ينتمي جوزيف قرنق إلى فصيل السياسيين الذين يتسق فكرهم مع موقفهم السياسي، مجسدا مقولة ان الموقف السياسي الصحيح والسليم للتعامل مع الحدث هو الموقف المستند الي الفكر بحيث يتسق الفكر مع معطيات الواقع. (الفكر باعتباره إطارا نظريا شاملا دراسة وتصور  ماضي وحاضر ومستقبل مطلق ظاهرة.. وفي الحالة السياسية ينطبق ذلك على ما نسميه ب(الفكر السياسي). والاخير بالضرورة  يتناول ويشتمل قضايا كثيرة بما فيها الفلسفة فهما يطرحان تصورات عن واقع سياسي جديد لكنهما يختلفان عن مفهوم (النظرية السياسة) التي هي مجرد حالة تفسيرية لواقع او ظاهرة سياسية موجودة بالفعل. بالتالي في(الفكر السياسي) يطرح أسئلة عن الشكل والمضمون بمختلف جوانبه في دولة كانت ام تنظيم يحدد كيفية بلورة السلوك السياسي إزاءها، بما يتضمنه ذلك من نظريات يحملها في تفسير  الواقع ).. تناول الظاهرة السياسية عند المفكر السياسي يكون وفقا للفكرة و للوصول للنتائج متوافقة مع الفكرة.. وهذا ما فعله جوزيف قرنق أنتج فكر سياسيا بعد دراسة للواقع وفق أدوات التحليل المنهج الماركسي للاجابة علي اسئلة الواقع.
الارتباط الجدلي بين الممارسة السياسية والفكر يشكل أساس الوضوح الفكري الفعلي المنتج للتحليل والخطاب والخط السياسي. وكان جوزيف نموذج للوضوح والالتزام بالخط السياسي التقدمي (في الخمسينات عندما كان غالبية الساسة الجنوبيين يلهثون خلف الأحزاب التقليدية وقصر الحاكم بحثا عن ضمان صيغة الفيبريشن للجنوب، كانت المجموعة الأولى للشيوعيين الجنوبيين بقيادة جوزيف قرنق تسهم مع الحزب الشيوعي في صياغة شعار الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب، لا في شكل صفقة سياسية بين قيادات سياسية بل كحل سياسي واجتماعي للمشكلة موضوعية، علي الشمال ان يدرك جذورها في الفوارق العرقية والحضارية وتركة الاستعمار المثقلة والتخلي عن التعالي القومي ).. تفكير السياسي يلتزم بالبحث عن حلول طويلة الأمد وجذرية للمعالجة، وليس كما يفعل الساسة البراجماتيين والوصول لحلول مؤقتة وقصيرة المدى عبر مشاركة نفس القوى التي تمارس التمييز والاضطهاد ضد الجنوبيين، السلطة مقابل اتفاقات سرعان ما يتم التنصل عنها.. توضح المقارنة الموقف السياسي الذي يستند على فكر مؤسس وعلى قاعدة صلبة.. لذلك يتجه أصحاب هذه المواقف الي المدح والتملق من أجل كرسي السلطة وتغيير المواقف وفق ما يحتاجه الكرسي، تجسيدا لانعدام المبدئية في تحديد الموقف والخط السياسي. مقولة ان السياسة هي فن الممكن التي يسعي الساسة البراغماتيون لتعميمها وجعلها التعريف الاشمل للممارسة العملية السياسي تبريرا لممارستهم الغير المبدئية في الفعل السياسي.. مشاركة الساسة الجنوبيين الذين كانوا يطالبون بالفيدرشن حكومات مع أحزاب الطائفية والرجعية الأمة والاتحادي بدون برنامج سياسي يتوافق مع خطابهم السياسي كان تجسيد لانعدام المبدئية في الممارسة السياسية لهؤلاء الساسة.. إذا كان الساسة البرجماتيون ينطلقون من تعريف السياسة بأنها فن الممكن فأن جوزيف قرنق عرف السياسة ممارسة الفعل وفقا للمبدأ والفكرة واستناد على نظرية سياسية تؤسس لخطاب مترابط مع الفكرة السياسية.
العوامل المؤثرة في فكر السياسي جوزيف قرنق،

المفكر السياسي وليد لقضايا عصره (مفكر سياسي مرآة لظروف عصره يعبر فيها عن أحوال قضايا المجتمع الذي يعيش فيه بصدق ويحاول من خلال عرضه لمشاكل المجتمع إلى تقديم رؤية أو تصور مايعالج فيه الظاهرة أو القضية أو المشكل الذي يعاني منه المجتمع ) ارتباط التفكير السياسي بالواقع الزماني والمكاني والظروف المحيطة هي فرضية صحيحة تماما لتناول اي فكر سياسي وفكر جوزيف قرنق ليس استثناء عن تلك القاعدة في فكره السياسي كان محكوما بالسياق التاريخي للأحداث السياسية في ذلك الزمن، توتر العلاقة بين الجنوب والشمال، المظالم التاريخية، الصراع حول كيف تكون العلاقة المستقبلية، والأسئلة المطروحة للاجابة عليها من قبل الفاعلين السياسيين مثل شكل العلاقة بين الجنوب والشمال ( جدل الوحدة والانفصال) الظلم والعدالة. شكلت تلك القضايا موضوعا للفكر السياسي جوزيف.هناك عوامل أثرت في تشكيل الوعي السياسي جوزيف وفيما بعد صاغت فكره السياسي من خلال تجربته الشخصية.. مراحله التعليمية ممارسته السياسية التراكم المعرفي، تجربة جوزيف السياسية..  كانت أول ملامح تشكل وعيه وفكره السياسي خلال فترة بداية الخمسينات.. خاصة بعد خيبة النخبة الجنوبية بعد مؤتمر جوبا واستمرار شكوك السياسيين الجنوبين حول مستقبل العلاقة بين الجنوب والشمال ومطالبة الجنوبيين بالفيدرالية وضرورة أن يكون لهم اشكال حكم خاصة بهم لديها بعض الاستقلالية عن المؤسسات الموجودة في شمال السودان، نسبة الفراق التنموية والادارية واختلاف البيئة السياسية والثقافية. كان أن نشأ حزب الجنوب، حركة جنوب السودان في عام 1951 بالقيادة ستانسلاوس وبيساما بوث ديو منبر وحيد لمعظم مثقفي الجنوب تحول اسم الحزب الي الليبرالي، لاحقا انضم جوزيف قرنق للحزب الجنوبي من خلال منبره احتك جوزيف بالافكار الرافضة لهيمنة الشمال على الجنوب، وضرورة إعطاء الجنوبيين حقوق سياسية واقتصادية وثقافية.. وتعرف على تجربة ستانسلاوس بيساما كلمنت امبورو في تكوين تنظيم تنظيم شبه سياسي تحت اسم (اللجنة الرسمية للرعاية في جنوب السودان) التي كانت تدعو الى حق العمل المتساوي ودعت لإضراب الموظفيين عام 1948 لزيادة الأجور، وكيف نجح الاستعمار البريطاني بمساعدة بوث ديو في ضرب هذا الخط وسيطر على الحركة، وقد وصل جوزيف لقناعة ان مظالم الجنوبيين مرتبطة بالاستعمار البريطاني، وإلى أهمية الخط المعادي للاستعمار.. لكنه وصل أيضا لقناعة بصعوبة استمرارية حركة معادية للاستعمار في الجنوب، وأوجز جوزيف ذلك في الآتي: التخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي المفروض على الجنوب بجانب العزلة من قبل الاستعمار البريطاني، ضعف القاعدة المادية للطبقة العاملة، بالاضافة لثقل وقيود الحياة القبيلة، وسهولة السيطرة على الساسة ذو الاتجاه المعادي للاستعمار نتيجة لضعف الخبرة لديهم الوعي الكافي بالاستعمار.
وبعد سيطرة خط بوث ديو على الحركة السياسية في الجنوب توصل جوزيف الي ضرورة البحث عن منابر أخرى لنضال الاستعمار وهضم حقوق الجنوبيين، ووجد ضالته في رابطة الطلاب الشيوعيين في جامعة الخرطوم وانضم للحزب الشيوعي في عام 1955 بعد عام من خروجه من حزب الجنوب.وشكل انضمام جوزيف للحزب الشيوعي نقطة تحول كبير في وعي وفكر جوزيف السياسي حيث تفتحت عيونه على معارف ودراسات شيوعية حول الاستعمار كظاهرة اقتصادية تعمل على استغلال شعوب افريقيا مما ساعده على ربط تخلف الجنوب بالواقع الاستعماري وامتلاك الأدوات العلمية للمنهج الماركسي لتحليل واقع الجنوب، تعرف على تجارب حركات التحرر ضد الاستعمار في العالم الثالث، وكيفية العمل على بث الوعي الفئوي والطبقي وخلق اجسام لتلك المهام.. مثلما فعل في مؤتمر الطلاب بمدينة واو.. وفتحت لديه دروب التغيير عبر برنامج الثورة الوطنية بإنجاز الاستقلال الاقتصادي والحكم الذاتي للجنوب كإطار لحل مسألة عدم المساواة بين الجنوب والشمال، وضمان الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للجنوب.
وجوده في الحزب الشيوعي اتاح لجوزيف فرصة لمراكمة رصيدك المعرفي والثقافي عبر التثقيف الذاتي ونهل من كتب ماركس، انجلز، لينين وآخرين دراسة تجربة الاتحاد السوفيتي وكيفية ادارة بلد متعدد القوميات مثل الاتحاد السوفيتي.

المسالة الجنوبية في فكر جوزيف.

يتميز جوزيف قرنق بين السياسيين المفكرين الجنوبيين بالالتزام بالمنهج العلمي للتحليل ونظيره في تناول المسالة الجنوبية والعلاقة المتوترة بين الجنوب والنظام الحاكم في أدبيات السياسية الجنوبية.تحتل المسألة الجنوبية الموضوع الأساسي في فكر جوزيف قرنق السياسي حيث يتناولها بصورة شاملة واستصحاب للبعد التاريخي وتحليل للبنية الاقتصادية والسياسية وتجلياتها الثقافية وبالدراسة بشكل عميق واستخلاص النتائج وفقا لمعطيات دراسة المسالة، مختلف عن الاخرين الذين يقفزون الي الخلاصات واصدار الموقف بدون التمرحل وبطرق التفكير العلمية والمنهجية.
المسألة الجنوبية هي تجسيد للاضطهاد القومي الذي تمت ممارسته ضد الجنوب.. ويقوم الاضطهاد القومي على أساس مادي ومن حرمان الجنوب من نظام سياسي يدير شئونه والنظام الاقتصادي يجعل الجنوب خارج دائرة التنمية وحصوله علي ادني مستوي من الخدمات التعليم والصحة مما ينعكس على الإطار الثقافي كضراوة لاستمرار الاضطهاد الاقتصادي عبر روح التعالي القومي والقهر تجاه ثقافاته.
وفقا  الي جوزيف فإن الاضطهاد القومي للجنوب لديه جذور تاريخية فهو يشير في كتابه أزمة المثقف الجنوبي إلى الحكم التركي المصري الذي بدأ اضطهاد الجنوبيين عبر تجار الرقيق الواسعة من خلال وسطاء تجار ينحدرون من شمال السودان استمرار ذلك الى دخول المستعمر البريطاني الذي قام بالغاء الرقيق فلم يكن المستعمر بحاجة الي قوة عمل الرقيق كما كان عند الاتراك وانما كان يستخدم الجنوبيين لاشكال اخرى من الاستغلال، علق جوزيف علي وصف بعض الساسة الجنوبيين  هذة القرار بالنبل البريطاني الى انه قرار يشبه (اخلاق الراعي الذي ينقذ الكبش من فك الاسد.. فالراعي لا ينقذ الكبش رفقا به بل للمصلحة ووعاء الطهو ) حيث يأكل الراعي الكبش بصورة مختلفة من الأسد.. كذلك فعل الاستعمار البريطاني استغل الجنوبين بصورة مختلفة عبر ضريبة الدقنية.. واجبر الشعب الجنوبي علي دفعها من خلال الماشية والحبوب لاحقا النقود. بالاضافة لتحطيم ممالك مثل مملكة الزاندي، وجعل الزعماء دمي في ايديهم، وفرض عزلة علي الجنوب، ومحدودية مشاريع التنمية في الجنوب مثل بناء الطرق وتطوير النقل النهري والجوي، ومشروع إنذارا للقطن مقارنة بالشمال ووفقا استراتيجية الاستعمار لنهب المواد الخام.. ولذلك هيكل اقتصاد السودان ليقوم على انتاج سلعة واحدة، القطن، وقد اختار منطقة وسط السودان لإنتاج تلك السلعة عبر مشروع الجزيرة وتركزت كل مشاريع التنمية في تلك المنطقة.. وكان الجنوب إحدى المناطق المتضررة من تلك السياسة الاستعمارية.علي مستوي التعليم اقام الاستعمار مؤسسات تعليمية تحت ادارة الإرساليات الكنسية لخدمة أهداف الهيمنة الثقافية ((الهدف الحقيقي الكولونيالية هو السيطرة على ثروة الشعب، بكيف ينتجونها وكيف يوزعونها.. ونجحت في ذلك من خلال الفتح العسكري والدكتاتورية السياسية ولكي تتحكم كان لا بد من السيطرة علي العالم الذهني للمستعمرة.. السيطرة من خلال الثقافة، الكيفية التي يدرك بها الشعب نفسه وعلاقاته بالعالم..  أن السيطرة الاقتصادية والسياسية لا يمكن أن تكون كاملة ومؤثرة بدون سيطرة على الأدوات التي يعرفون بها هوياتهم الذاتية في العلاقة مع الآخرين.. للتدمير او الحط من ثقافة شعب، لفنه، لرقصات الديانات،جغرافيته، لتعليمه، مروياته وأدبه، والاعلاء الواعي من شأن لغة المستمر ).
بعد خروج المستعمر وتسليم السلطة للبرجوازية الشمالية تحت شعارها تحرير لا تعمير استمرت نفس السياسات والهيكل الاقتصادي الذي يرسخ للتنمية الغير المتوازنة بين الجنوب والشمال. يقدم جوزيف رؤيته التفسيرية لطبيعة علاقات السلطة في السودان وأسباب اضطهادها للجنوبيين، وعلاقات المصلحة التي تحكم عملية الاستغلال، وارتباط ذلك بالنظام الرأسمالي الامبريالي الذي كان  سبب مباشر لتلك الازمة، يوضح جوزيف شكلين للتناقض شكلا معا عاملين مؤثرين في علاقات عدم التكافؤ بين الجنوب والشمال، التناقض مع النظام الرأسمالي العالمي، الذي استعمر افريقيا زمن طويل وخلق أنماط مشوهة من التنمية واقتصاديات المنتج الواحد الذي خلق أطراف مستعبدة اقتصاديا ومهمشة، وكان جنوب السودان أحد ضحايا تلك السياسة الاستعمارية، في حرمان  الجنوب من فرص التنمية كان نتيجة للسياسة الكولونيالية الربحية لإنتاج، سلعة واحدة لتلبية احتياج السوق البريطاني من القطن وإهمال المناطق الأخرى في السودان، ويرى جوزيف أن التحرير ينبغي أن يبدأ بالتحرر من هيكل الاقتصاد الذي خلقه الاستعمار كأساس لحل مسالة الجنوب مثل تحرر باقي الشعوب الافريقية من السيطرة الرأسمالية.
وفقا لجوزيف يتمثل في الطبقات الشمالية الاستغلالية مثل ملاك الأراضي والإقطاعيين والبرجوازية وممثليهم الفكريين البيروقراطيين في جهاز الدول الذين سيطروا الاقتصاد والسياسة والتطور الاجتماعي في مديريات الجنوب آنذاك.. واستمر تطبيق نفس سياسة الاستعمار البريطاني بما في ذلك الضرائب والعشور ورسوم القطعان والسخرة وعدم العدالة في المرتبات وتقييد التعليم. ويكشف جوزيف عن المصالح الطبقية وراء استغلال تلك الطبقات للجنوب (البرجوازية الشمالية، ككل برجوازية استعمارية او شبه استعمارية، تحلم بأن تصير يوما غنية رأسمالية البلدان الامبريالية. يحلم البرجوازيون الشماليون بأن يصبحو ذات يوم رأسمالية صناعية أو مصرفيين او زراعية او تجار فاحش الغنى ...الخ.. ولتحقيق ذلك الاحلام يحتاجون الأسواق لمنتجاتها ويحتاجون عمالة زراعية وصناعية رخيصة ومواد خام...الخ.. وهم ينظرون المناطق المتخلفة مثل جنوب السودان كمصدر مثالي للحصول على مثل هذه الاحتياجات. ومن هنا يأتي توجههم لكبح جماح التنمية في مثل تلك المناطق والعمل من أجل وضع السكان المحليين تحت نفوذهم وسيطرتهم الايديولوجية والثقافية ) وكانت استثمارات البرجوازية الشمالية الزراعية في البن والقطن والشاي والتبغ التي اعتمدت على الأيدي العاملة الرخيصة في جنوب نموذج أشكال استغلال الجنوب.. بالإضافة إلى التجارة في سلع مثل العاج وريش النعام والملح والحبوب. ويشير مفهوم البرجوازية إلى الفئة الاقتصادية والسياسية التي تعرف بمؤسسة الجلابة التي تضم التجار من مناطق الشمالية.. لاحقا ضمت عائلات الإدارة الاهلية والفئات البيروقراطية المرتبطة بالجهاز الدولة من المدنيين والعسكريين وقيادات اجتماعية ودينية. وتحدث جوزيف عن محاولة تلك المؤسسة فرض رأسمالها الرمزي الثقافة اللغة العربية والاسلامية لممارسة الهيمنة الثقافية وجعل الجنوبيين تحت السيطرة بعد تدجينها ثقافيا مما يسهل العملية عليهم الحط من هوية وثقافة الجنوبي وجعله لا يثق في ذاته وفرض هوية الطبقة المسيطرة من خلال سياسات فرض اللغة العربية والدين وتلك هي وظيفة للثقافة كإطار للهيمنة وجعل المستغليين يرضون بالاستغلال. رغم ان الاستغلال اخذ طابع عرقي وثقافي إلا أن جوزيف كان ذكي عندما درس الجانب العميق للاضطهاد العرقي وتجلياته المختلفة (ففي مجتمع قائم على استغلال الإنسان للإنسان، ومهما كانت درجة قساوة الاستغلال، فمن غير المستحسن التميز بخصوصية ما كالعرق أو الدين أو العرف. في الطبقة الحاكمة سوف تجد سريعا مبررا بيولوجيا أو دينيا أو قانونيا للوضع الذي تفرضه على الطبقات الأخرى  ).
يجدر الإشارة إلى أن جوزيف درس طبيعة البنية الاجتماعية والاقتصادية لجنوب السودان ووفقا جوزيف فان ملامح الجنوب الجغرافية والثقافية (الجنوب بمساحته البالغة ثلث مليون ميل مربع يضم ثلاثة ملايين من الزنوج، يختلفون ثقافياً وتاريخياً واجتماعياً وحتى عنصريا عن القومية المتحدثة باللغة العربية في الشمال. الجنوبيون أنفسهم لا يشكلون قومية موحدة، لكنهم منقسمون إلى أكثر من خمسين قبيلة، وهى قبائل تختلف تماماً في لغاتها وتاريخها وثقافتها عن بعضها البعض. وفوق كل ذلك فإن الصراعات القبلية ما زالت حية، وتشكل تهديدا مستمرا لوحدة الجنوب السياسية. ومن المحزن أن القبلية قائمة حتى وسط المتعلمين بما فيهم أعضاء البرلمان ) واقتصاديا (نسبة لقيام اقتصاد بدائي يعتمد على المراعي والزراعة المتنقلة، وهدفه إنتاج سلع الاستهلاك فقط، وليس التبادل، فإنه ليس هناك ما يوحد هذه القبائل. ). البناء النظري لفكر جوزيف قرنق السياسي كان مستندا على دراسة تركيبة المجتمع الجنوبي بمختلف جوانبه ليخلق صورة شاملة للواقع تؤسس من خلالها النتائج والخلاصات.

رؤية جوزيف للبديل التقدمي لمسألة الجنوب

ان تكون ماركسي االتفكير يعني ان فكرك السياسياداة لتحويل الواقع تحويل الثوري يهدف لتغيير الواقع، للتقدم ورفاهية الإنسان.. فكر جوزيف السياسي كان تأكيدا لتلك الفرضية فقد درس جوزيف وقدم تحليل لكل الجوانب المتعلقة بالمسألة وتجاوز البعد التأملي والنظري للفكر لطرح بديل تقدمي يرتكز على الاتي:
السياسي، كان جوزيف يري ان الإطار السياسي لمعالجة مسالة تتطلب اعطاء مديريات الجنوب حكم ذاتي داخلي مؤسساً على مجلس تمثيلي لكل القبائل بنسبة عددها لتنظيم شئونها الداخلية مع وجود تمثيل ديمقراطي داخل السودان الموحد الديمقراطي وقيام مجلس سلطة تشريعية للمديريات الجنوبية منتخب على أسس ديمقراطية، بحيث يكون لديه فرصة لوضع طريقة مثلى لإدارة شئونه.. مما يتيح له الفرصة ووضع قوانينه المحلية وفق إرادته وبحرية دون تسلط الحكومة المركزية في الشمال.. ويفسح المجال لمشاركة الجماهير في اتخاذ القرار ويرى جوزيف قرنق أن الحل للمسألة الجنوبية يجب أن يكون حلاً يمكن بمقتضاه حماية أهل الجنوب مما اسماه بالقهر والاستغلال الذي تمارسه البرجوازية الشمالية.. ويتعبر بيان التاسع من يونيو الذي صاغه جوزيف قرنق أول وثيقة رسمية في السودان تعترف بحق الجنوب في الحكم الذاتي وتعترف بالتنوع الثقافي.. وشكلت تلك الوثيقة الأساس لاتفاقية أديس ابابا 1972 رغم ان نميري وحركة انيانيا أفرغ الحكم الذاتي من محتواه الديمقراطي والاجتماعي وجعله صفقة فوقية بين الساسة.. عاد شعار الحكم الذاتي ليكون أساس حل للمسألة الجنوبية في اتفاقية نيفاشا 2005. والحكم الذاتي يتطلب علاج جذري لقضايا جماهير الفقراء ومعالجة قضايا التخلف الاجتماعي. وضع جوزيف للتغيير بالتخلص من البيروقراطيين العسكريين والمدنيين في جهاز الدولة باعتبارهم معادين لأهداف التغيير ومستفيدين من قهر الجنوب ليتكون جهاز ثوري.
يشكل البعد الاقتصادي محور أساسي في رؤية جوزيف لمعالجة مسألة الجنوب باعتبار ان الاقتصاد محور ضروري للتغلب على تحديات التخلف الاجتماعي وانعدام التنمية وتدفع الحياة الاقتصادية الي التقدم الاجتماعي والرخاء. تحليل التركيبة البنيوية للاقتصاد الجنوب شكل عمود فقري لرؤية جوزيف للبعد الاقتصادي في مسألة الجنوب حيث يخضع الجنوب للتبعية في الاقتصاد السوداني الذي لا يختلف عن (التركيبة الكولونيالية للاقتصاد في البلدان النامية ينشأ ويتطور مع مجمل عناصر البنية الاقتصادية القائمة ) من خلال سيطرة انماط الانتاج ما قبل الرأسمالية بالصيغة التقليدية،، بدائية الزراعة وسيادة أساليب الإنتاج المشاعية القبلية وادخالها في حيز اقتصاد نقدي لتلبية احتياج السوق الخارجي ويعتبر مصنع انزار للنسيج  نموذج لصحة الفرضية حيث مشروع نقدي يلبي حاجة السوق الخارجية رغم ان المجتمع الذي يوجد فية المصنع مجتمع الزاندي يمارسون الزراعة التقليدية الموسمية بشكلها المشاعي وليس لديهم المام بزراعة القطن. التنمية الغير متوازنة بين الجنوب والشمال لديها جذور تاريخية (ولقد أرجع جوزيف قرنق في محاضراته جذور غياب التوازن التنموي الحادث في السودان إلى العهد التركي المصري والفترة المهدية، حيث تركز التطور الاقتصادي والاجتماعي والتجاري في الشمال، وتم بناء المدن على طول النيل وفى البحر الأحمر. ثم جاء العهد البريطاني الذي بنى مشروع الجزيرة والسكك الحديدية والمؤسسات التعليمية، مدارس وكلية غردون. ونمت طبقة عاملة، وانتعشت الحركة التجارية وفتحت مصر جامعاتها لأبناء القبائل العربية لخلق مثقفين معادين للاستعمار البريطاني. وبدأ الشمال يتقدم، أما في الجنوب فقد كان الأمر مغايراً ) حيث كان الجنوب يرزح تحت  وطاة  الاثارة المدمرة للتجارة الرقيق من تعطيل للحياة اليومية وانتشار المجاعات والامراض والاوبئة بالاضافة الي تناقص اعداد السكان وقد شكلت تلك الاثار سبب رئيسي للتخلف الجنوب عن الشمال  وغياب للتنمية وفقا لجوزيف  .  فيما يختص بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في الجنوب (وقد عرّفت الورقة المعروضة في الحلقة العلاقات الإنتاجية السائدة في الجنوب بأنها أقرب إلى المشاعية البدائية منها إلى أي علاقات أخرى شهدها سلم التطور الاقتصادي والحضاري. ومستوى التطور الاقتصادي لا يتعدى ما يسد الرمق، وربما لا يصل إلى هذا الحد. وقد أشارت الورقة التي تحاول استكشاف الواقع الاقتصادي نظرياً في الجنوب، إلى أنه في أغلبية مناطق الجنوب لا يتم تبادل المنافع المادية بين الإنسان والإنسان، بل بينه وبين الطبيعة مباشرة ودون واسطة  )
ترتكز رؤية جوزيف للبعد الاقتصادي على هدفين الأول يتعلق بالتمكين الاقتصادي للجنوب وجعله اقتصاد يقف على ساقيه معتمد علي نفسه ويكون علي قدم المساواة مع التنمية في الشمال والهدف الثاني يتعلق بتلبية احتياجات المجتمع المحلي الجنوبي..
يرى جوزيف أن التطور الاقتصادي الحقيقي في الجنوب يجب أن يكون من أولوياته الاهتمام بالثروة الحيوانية التي تمثل عماد الحياة الاقتصادية والصناعية للجنوبيين لتلبية احتياجات المجتمع الجنوبي الحقيقية عن طريق الاهتمام بصحة الثروة الحيوانية ومعالجة مشاكل الأمراض والأوبئة ومحاربة المزايدات الرخيصة الحيوانات والاهتمام والمراعي الخصبة. بالاضافة (يركز القطاع العام، ولفترة طويلة، على الزراعة، خاصة الغابات، وزراعة المحصولات النقدية كالبن والشاي في الاستوائية، والكناف والسكر والزيتيات، وأن نسير ببطء في مجال التصنيع المرتبط بهذه المنتجات، والعمل على تطوير القطاع العام في مجال إنتاج وتصنيع الفاكهة، وأن يكون من واجبات ذلك القطاع العام إنشاء شبكة مواصلات برية ونيلية كشرط ضروري لعملية التنمية ) ايضاركز جوزيف علي  القطاع التعاوني ودورة في التنمية الجنوب.
في مجال التمكين الاقتصادي للجنوب كان جوزيف يرى ضرورة التمييز الايجابي بفرض نسب مئوية لتوظيف الجنوبيين في الخدمة المدنية لردم الفجوة الكبيرة ورفع قدرات العامل وتوفير فرص للتعليم الصناعي لتطوير قدرات العمالة لملاءمة احتياجات سوق العمل.
الثقافي، موقع الثقافة في فكر جوزيف السياسي موقعا مهما في إطار تنمية الجنوب ورفض الهيمنة البرجوازية الشمالية وممارسة القهر القومي عبر التمييز والحط من ثقافات الجنوب.. لذلك الثقافة لدي جوزيف اداة مقاومة لمشروع الهيمنة وشكل من أشكال احترام الذات والفخر بالجذور والثقافة الافريقية لدى قبائل الجنوب.
انتقد جوزيف ممارسات البرجوازية بفرض سيطرة ايديولوجية وثقافية من خلال فرض اللغة العربية والإسلام على الجنوب (سياسات اضطهاد وطني جدية تهدف لتذويب هؤلاء في الامة العربية.. ومن هنا يأتي تصاعد القمع لحقوق الشعب الديمقراطية وفرض اللغة العربية على المجموعات المحلية واستبعاد لغاتهم الخاصة وفرض الثقافة العربية الإسلامية ) بالنظر إلى أفكار جوزيف قرنق بخصوص الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب كاطار لمعالجة مسألة الجنوب نجد ان الثقافة تعتبر ركن مهم من اركان الحكم الذاتي مع السياسة والاقتصاد فالحكم الذاتي يتأسس على المنظومة الثقافية لقبائل جنوب السودان والاعتراف بالتباين القبلي والعرقي والثقافي والقومي للجنوب وعلى مساعدة قبائل الجنوب لتطوير ثقافاتها ولغاتها.
ويرى جوزيف أهمية تضمين اللغات المحلية في المناهج الدراسية  أولا (أن تقرر اللغات المحلية كمواد للدراسة كل في بيئته، وتطويرها بطرائق العلم حتى تحل محل اللغة العربية كوسيلة للتعليم مرحلة إثر مرحلة، مع الإبقاء على اللغة العربية كمادة دراسية منذ بداية السلم التعليمي، ومن شأن العلم وحده لاعتبارات سياسية وتربوية – لا يمكن التنبؤ بها الآن – أن يحدد اللغات المحلية التي ستعتمد كوسائط مستقرة للتعليم ثانياً: أن تأخذ الأسبقية المميزة في هذا الاتجاه لغة الدينكا يتحدث بها 11% من سكان الجنوب، وأن تدرج في هذه الأسبقية كل لغة ذات ثقل سكاني ملموس ثالثاً: أن يعمل على تطوير اللغة العربية بقصد تلاؤمها مع أحداث وإيحاءات اللغات المحلية الأخرى، وأن تنمى الإمكانيات الأبجدية العربية بالقدر الذي يؤهلها لترمز للأحداث التي ليست أصلاً  فيها، والموجودة بتلك اللغات رابعاً: أن يكون لطالب محو الأمية الخيار في تعلم لغته المحلية أو العربية، ومن شأن ذلك أن يسقط الاعتقاد الماثل للرسوخ، والذي يربط بين الأمية وتعلم اللغة العربية ). بالثقافة عند جوزيف هي جزء من مشروع نهضة الجنوب الشاملة.

الصراع الفكري مع اليمنيين

الصراع الفكري في حقل الممارسة السياسية عبر أدواتها الجدل، وتفنيد حجج التيار الآخر بشكل موضوعي، هو انعكاس للصراع الاجتماعي وتعبر عن مصالح القوى الاجتماعية المتصارعة في حلبة اللعبة السياسية، الصراع الفكري بين اليمين واليسار في العالم هو نموذج لذلك الصراع. فكر جوزيف قرنق باعتباره فكرا يساريا يعبر عن مصالح قوى اجتماعية تهدف للتغيير ليس استثناء من تلك القاعدة فقد خاض جوزيف قرنق معارك فكرية مع التيار اليميني الذي اختلف معه في أفكاره.
الصراع حول تحليل المسألة الجنوبية كان أحد موضوعات الصراع الفكري بين جوزيف اليمنيين الجنوبيين، هو صراع واختلاف الرؤى في تفسير وتحليل مشكلة العلاقة المتوترة بين الجنوب والشمال.
اليمنيون امثال بوث ديو والاخرين كانوا يعتقدون بان الصراع بين الجنوب والشمال هو صراع عرقي وأن التناقض الاساسي الذي يسبب كل تلك الإشكاليات ناتج من الاختلاف العرقي والثقافي، فالشمال عربي والجنوب افريقي ويعرض جوزيف الحجة والفرضية الاساسية لهذا التيار (إذا لم يكن بالامكان تحويل العربي إلى "زنجى" أو "الزنجي" إلى عربى فمن الخير لهما أن ينفصلا ).. ويتسأل جوزيف عن مدى صحة فرضية اليمينيين إذ أن نفس ما يحدث هنا حاصل في عدة بلدان أفريقية مثل نيجيريا وأوغندا والتفنيد حجة اليمينيين لجأ جوزيف لنماذج للصراعات في دول أفريقيا ما بعد الاستعمار نتيجة للسياسة الاستعمارية فرق تسد بإعطاء السلطة والامتيازات مجموعة منتمية لعرق وجغرافية معينة وحرمان الآخرين وتهميشهم مما يولد مشاعر الكراهية بين أبنائهم وتفضيل الاستعمار عند الطرف على الطرف الآخر ... تجربة الصراع الجغرافي في نيجيريا وفي رواندا حيث اخذ الصراع شكل قبليا، كل تلك الصراعات إفراز لازمة متعلقة بالبناء الوطني  للدولة ما بعد الاستعمار وكيفية تجاوز الإرث الاستعماري بتقسيم الشعوب وزرع روح الكراهية والتعصب علي اساس عرقي وديني وجغرافي .. يقدم جوزيف امثلة لدول متعايشة بسلام رغم تعددها العرقي والثقافي ليؤكد ان ملامح التناقض وجوهر الازمة في هياكل الدول السياسية والاقتصادية وليست في اختلاف العرق وان تمظهر الصراع في شكل عرقي هو نتيجة للصراع عندما يقول (العامل العرقي والعنصري لم يكن بالعنصر الأساسي والحاسم، وحتي في جنوب افريقيا فإن جوهر الازمة ليس عرقيا فالتمييز العرقي هو مجرد مظهر لعوامل خفية اعمق) وقد اوضح جوزيف كيف ان التمييز العرقي ضد الجنوبيين هو إفراز لعوامل سياسية واقتصادية مرتبطة بهيكل الدولة الكولونيالية وقد اشرنا اليه في أجزاء أخرى من المقال. (ويعتبر أبرز زعماء هذا التيار هم زبونى منديري، بوث ديو، والأب سترنينو لوهرى، وجوزيف ادوهو ). وقدم جوزيف نموذج جيد لإدارة الصراع الفكري مع المختلفين معه عبر مسجلات في الصحف اتسمت بالموضوعية حول مستقبل الجنوب وما هو الشكل الأفضل لكي ينال الجنوب حقوقه المهضومة. ويعتبر الاختلاف بين الفيبريشن والحكم الذاتي أبرز نقاط الخلاف بين جوزيف والتيار اليميني..
هل يحقق الفيبريشن الديمقراطية في جنوب السودان ووجد السبيل لتنمية لغاته موروثاته ذلك التساؤل طرحه جوزيف في بداية حواره مع التيار اليميني فيما يختص بالبديل الأفضل للوضعية الجنوب.
استناد جوزيف على حقائق الواقع ليؤكد عدم ملاءمة النظام الفيدرالي للواقع الجنوب نسبة لعدم توفر متطلبات النظام من اقتصاد مستقل وضعف مؤسسات الخدمة المدنية يجعل من تطبيق الشعار الفيدرالية حبر على الورق..
 (ويمضي القائد الشيوعي الجنوبي موضحاً رأى تنظيمه في الفيبريشن، ليقول "إن الذي يوحد الجنوبيين الآن هو الشك القائم بينهم تجاه الشماليين وانه إذا أزيلت عوامل الشك، فقد تغلب الخلافات القبلية في الجنوب على روح الوحدة القومية". (100) وراح جوزيف قرنق يقول انه في مثل هذه الظروف لا يمكن أن تقام دولة فيدرالية في الجنوب. ونبه جوزيف قرنق إلى أن قيام هذه الدولة سيؤدى إلى اضطهاد القبائل الصغيرة بواسطة القبائل الكبيرة. وهكذا فإن نظام الفيبريشن سيؤدى في أقوى الاحتمالات إلى تفكك الجنوب والشمال، وسينقل الفيبريشن الخلاف القائم اليوم بين الجنوب والشمال إلى خلاف بين الجنوبيين أنفسهم. بالإضافة إلى ذلك، فان المسألة تزداد تعقيداً لندرة الموظفين المدربين الأكفاء، وزيادة النفقات التي ستقع على القطر كله من جراء الازدواج في الوزارات وموظفي الخدمة والبرلمانات المتعددة. كما أنه في مثل هذه الظروف يستطيع الاستعمار وبسهولة إشعال نيران الخلاف حول مسائل السلطة بين الدولة والحكومات الفيدرالية مما يترتب عليه انهيار كامل في جهاز الحكم وتفكك الدولة كلها.  واستخلص جوزيف قرنق انه من كل هذه الظروف التاريخية القائمة الآن في الجنوب فإن النظام الفيدرالي غير عملي ). وجه جوزيف انتقادات للتيار اليميني لعدم تقديمهم لبرنامج تفصيلي يعالج قضايا التخلف وانعدام التنمية في الجنوب واكتفائه بالشعارات فوقية والتركيز على المناصب والسلطة السياسية دون الاجابة على الاسئلة، ويبدو أن هذا التيار كان يعمل على وراثة علاقات الاستغلال من البرجوازية الشمالية كما يصفه جوزيف تتبنى شعارات وطنية وتصرخ الذئاب لكنها من جهة أخرى يحلم بخلافة الذئاب في احتكار السوق واستغلال الشعب وتصبح ذئاب جديد.
تتلخص رؤية جوزيف في نقد الفيدرالي أن الجنوب يحتاج لبرنامج تنموي يجعله يقف على ساقها عبر الحكم الذاتي الذي يتيح للجنوب فرص للتنمية والتمييز الإيجابي للمساواة مع الشمال قبل الحديث عن فيدرالية أو انفصال وان تجاهل تلك المعطيات قد يؤدي إلى جعل الجنوب لقمة سهلة للأطماع الخارجية ولا يحقق الجنوب استقلاله الحقيقي وقد يؤدي الي اشكاليات تعقد الوضع في الجنوب أكثر.
الإرث الفكري جوزيف قرنق

بعد مرور اربعة عقود على اغتيال نظام نميري جوزيف قرنق في 28 يوليو 1971 ماذا تبقى من فكر جوزيف قرنق خاصة بعد جرت مياة كثيرة تحت النهر بالحدث التاريخي انفصال الجنوب..  ترك جوزيف إرث فكري قيما، حيث يعتبر مادة حية دوما لنقد اوضاع الجنوب الحالية خاصة أن إحداثيات الازمة في الجنوب مثل الصراعات القبيلة، ضعف مؤسسات الدولة، تأثير الأطراف الخارجية على القرار السياسي واستمرار الاستغلال مع ذئاب جديدة  أثبت صدق تنبؤاته مما يؤكد صحة أدواته التحليلية بالرغم ان ما كتبه جوزيف مرتبط بسياق تاريخي محدد، لكن ذلك لا ينقص من القيمة الفكرية التي شخصت البنية الاقتصادية والسياسية والثقافية بالمنهج العلمي الماركسي إنتاج معرفة علمية للواقع.. ما كتبه جوزيف من قضايا وتحليلات ونقد، يمكن القول بأنه مرجعا مهما.. يقول توماس سنكارا بامكانك قتل الثوار كأفراد لكن افكارهم لا يمكن قتلها. فقد تم قتل جوزيف لكن من قتلوه لا يقدرون علي قتل فكره بل وقعوا اتفاقية بناء علي افكار جوزيف وبقي فكر جوزيف إيقاظ وعي المضطهدين بقضاياهم وإنارة طريق التقدميين لمستقبل خالي من الاستغلال ولبناء تيار وطني بمضمون ديمقراطي اشتراكي بقي فكر جوزيف وقيم التزام المبدأ والفكر وممارسة العمل السياسي استناد للفكر.. بقي فكر جوزيف المضمون يحلل قضايا التخلف الاجتماعي وانعدام التنمية.. بقي فكر جوزيف ملتزم بقضايا شعبه واحلامهم في الحرية والسلام والعدالة.. بقي فكر ناقد للحلول السطحية ومشاريع إعادة انتاج الاستغلال بالصورة جديدة. سيبقى إرث جوزيف الفكري كأساس نظري لتحليل الواقع وكممارسة سياسية ملتزمة المبدئية. وبقيت كلماته الاخيرة التي كتبها لصديقه جريفس ياك (قضي الأمر.. والآن أنا كطائرة تهوي على البحر. يا لها من مأساة.. ويا لها من بطولة تراجيدية.!.
المراجع
1- أوراق قديمة ... فى سياق جديد عرض الدكتور عبدالماجد علي بوب
2- 2- جون قاي تاريخ الفكر السياسي في جنوب السودان دار رفيقي
3- 3- الفكر السياسي للحكيم جورج حبش فايز رشيد
4- 4-جوزيف قرنق وبيان التاسع من يونيو التوم النتيفة 5- فرانز فانون ومقاومة الاستعمار في افريقيا قراة في جدلية العنف الثوري اعداد محمد محمود محمد المركز العربي الديمقراطي
5- 6- ازمة المثقف الجنوبي جوزيف قرنق
6- 7- نغوجي واثيوانغو تصفية استعمار العقل
7- 8- الحزب الشيوعي ومسالة الجنوب جعفر كرار
8- 9- حلقة ليون تروتسكي - باريس في 19/06/2015  النضال الطويل للسود الأميركيين
9- 10- معين ناصيف..التطور اللارأسمالي في بلدان العالم الثالث.

تعليقات